ما الذي فعلته الحرب الأوكرانية بغذاء الملايين؟
- ثقافة
- Aug 03, 2022
مضت أشهر معدودات على بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أنها كانت كفيلةً بإغراق العالم بأسره في سلسلة من التحديات الاقتصادية، مخلفةً وراءها أزمة غذاء عالمية حادة ألقت بظلالها على ملايين المستهلكين، فبفعل الحرب، وصلت حالة الأمن الغذائي في العالم إلى منحدر غير مسبوق، وصفها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بـ"المأسوية".
العالم بين شقي الرحى
ألقت الحرب الأوكرانية الروسية بظلالها على ثلاث أسواق رئيسية، وهي الأغذية بما فيها علف الحيوان، والوقود خاصةً المستخدم للآلات الزراعية، وأخيرًا الأسمدة على اختلاف أنواعها، وفق تقرير للفاو صادر في 25 مارس الماضي، إذ إن روسيا وأوكرانيا مسؤولتان معًا عن 14% من إمدادات القمح، و10% من إمدادات الشعير في العالم، و4% من إمدادات الذرة، ويعتمد عليهما نحو 50 بلدًا لتأمين 30% أو أكثر من إمدادات القمح، كما أن الاتحاد الروسي المسؤول الأول عن تصدير الأسمدة النيتروجينية، والثاني عن أسمدة البوتاسيوم، والثالث عن الأسمدة الفوسفاتية، وهكذا أصبح العالم بين شقي الرحى، فقد زادت أسعار الأسمدة من تكاليف إنتاج الأغذية بشكل غير مسبوق، وهو المنتج الذى لا غنى عنه، لأن تقليل الأسمدة يعني تراجُع معدلات الإنتاج وبالتالي تفاقُم أزمة الغذاء مجددًا.
انعكاسات الأزمة على مصر
تُعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، إذ استوردت في النصف الأول من السنة التجارية (2021-2022) نحو 80% من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، وفق بيانات وزارة الزراعة الأمريكية، يقول محمد القرش، المتحدث الرسمي باسم وزراة الزراعة المصرية: إن مصر لديها 22 منشأ تعتمد عليهم في استيراد القمح، من ضمنهم روسيا وأوكرانيا، كما أنها تعمل على زيادة المساحة المزروعة من القمح، والتي تجاوزت هذا العام 3.6 ملايين فدان، ومن المتوقع حصاد ما يقرب من 10 ملايين طن.
وأضاف في تصريحات لـ"للعلم" أن وزارة الزراعة وضعت سعرًا تحفيزيًّا لشراء القمح من المزارعين هذا العام بزيادة نحو 160 جنيهًا مصريًّا في سعر الأردب الواحد، مقارنةً بالعام الماضي لتصل قيمته الإجمالية إلى 885 جنيهًا مصريًّا، ما حفز الإنتاجية، ليصبح متوسط الإنتاج من 18 إلى 20 أردبًّا للفدان الواحد، إضافةً إلى النتائج الجيدة لمشروعات التوسع الرأسي في ظل تطوير أساليب الري، واستنباط أصناف طويلة العمر وذات إنتاجية أعلى، ومقاوِمة للجفاف.
ومع أن أزمة القمح هي التي تتصدر عادةً بؤرة الاهتمام، إلا أنّ أزمة الزيوت تكاد تنافسها في الأهمية، إذ تستورد مصر أكثر من 97% من احتياجاتها من زيوت الطعام من الخارج وهي مشكلة كبيرة، وفق عبد المنعم خليل، رئيس قطاع التجارة الداخلية بوزارة التموين، الذي أوضح أن الدولة استطاعت توفير مخزون إستراتيجي من الزيوت يكفي ستة أشهر ونصف بالاعتماد على مناشئ عديدة للاستيراد.
وأضاف "خليل" -في مكالمة تليفونية مع "للعلم"- أن الدولة اتخذت عدّة سياسات لتوفير السلع الأساسية، فبالنسبة للقمح استهدفت توفير 6 ملايين طن من الإنتاج المحلّي جرى توريد 4 ملايين طن منها حتى الآن، كما عملت على تحديث الصوامع وزيادة السعة التخزينية، وأنشأت 480 نقطة حقلية لتوريد القمح من أجل رفع الأعباء عن المزارع في التوريد إلى أماكن على بُعد مسافات الكبيرة، وبالتالي لدى مصر احتياطي من القمح يكفي حتى حلول العام القادم.
وكان ارتفاع أسعار السلع الغذائية من الآثار القاسية للحرب، فخلال شهر مارس الماضي بلغ مؤشر منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لأسعار الأغذية أعلى مستوى له عند 160 نقطة منذ إنشائه في عام 1990، لذا اقترحت "الفاو" إنشاء مرفق عالمي لتمويل الواردات الغذائية؛ من أجل مساعدة البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ويمكن أن يستفيد منه قرابة 1.8 مليار شخص في 61 بلدًا معرضًا للمخاطر.
وفي ظل هذا الارتفاع، أنشأت مصر مبادراتٍ للسلع المخفضة، وأسواقًا متحركةً للبيع بأسعار الجملة في المحافظات؛ لتقليل حلقات تداول السلع، وبالتالي تقليل هامش الربح ليصل المنتج إلى المستهلك بسعر أقل، مع إتاحة السلع في المجمعات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين والتي تمثل 1600 منفذ على مستوى الجمهورية، وبالتوازي شددت الرقابة لضبط الأسعار، إذ يُلزم قرار وزير التموين رقم 330 لسنة 2017 بتحديد سعر البيع للمستهلك من مكان الاستيراد أو المصنع، وبالتالي مهما زادت حلقات التداول أو قلت فسعر المنتج ثابت، وهذا يمنع التجار من تخزين السلع أو بيعها بما يفوق ثمنها، وفق "خليل".
المرحلة القادمة ستكون أصعب
عبد الحكيم الواعر، المدير العام المساعد لمنظمة الأغذية والزراعة، والممثل الإقليمي لإقليم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، قال في مقابلة مع "للعلم": إن المرحلة القادمة ستكون أصعب؛ لأن الدول تستهلك الآن من مخزونها الإستراتيجي من الغذاء والحبوب، كما يُتوقع أن يبدأ الإنتاج المحلي في شهر يونيو الجاري، ممّا يساعد في توفير المزيد من الحبوب، ولكن بعد انتهاء فترة الصيف سيكون هناك المزيد من الطلب، يصاحبه ارتفاع في أسعار الطاقة وأسعار النقل والشحن، ومع بداية فصل الشتاء سترتفع أسعار الغاز، وهو الأمر الذي سيؤثر في أسعار الأسمدة وأسعار الغذاء العالمية، ومع نهاية العام ستصبح المسألة أكثر تعقيدًا إذا لم نجد حلولًا.
وأضاف أن إنتاج الغذاء الأساسي مثل القمح والذرة من الزراعات التي تتطلب مساحاتٍ شاسعةً وكمياتٍ وفيرةً من المياه، لذا تميزت منطقة البحر الأسود وخصوصًا روسيا وأوكرانيا بهذا الإنتاج، وبالتالي اعتمد عليهما عددٌ كبيرٌ من الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لاستيراد الحبوب نتيجة القرب الجغرافي وسهولة حركة الملاحة البحرية، ولمعاناة هذه الدول من شح المياه وندرتها وانحسار الأراضي الزراعية مع ازدياد حدة التغيُّر المناخي وقلّة الزراعات المستهلكة للموارد المائية.
بالنسبة لمصر، رأى "الواعر" أنها تعاملت بشكل جيد مع الأزمة وكان لديها بالفعل خبرة سابقة في التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية في 2007 و2008 وجائحة كوفيد وأزمات نقص سلاسل الإمداد والغذاء، فقد وسعت من قدرتها التخزينية للسلع الإستراتيجية، كما أصدرت عددًا من السياسات والقوانين التي ترشد استهلاك الغذاء، ومنها وضع منظومة للمواطنين المحتاجين إلى الدعم الغذائي، بحيث يصبح الغذاء المدعوم حكرًا على الفئات الأكثر احتياجًا، كما بدأت مشروعات لإعادة استخدام المياه المستخدمة لغرض الزراعة، مثل مشروع محطة بطن البقر، إضافةً إلى مشروع الاستصلاح الزراعي في الصحراء الغربية، واستخدام التقنيات الحديثة مثل الأقمار الصناعية لبحث إمكانية تحلية مياه البحر، والعمل على ترشيد الري لإنتاج كم أكبر من الغذاء بكميات أقل من المياه.
وأضاف أن أزمة الأسمدة تأتي مباشرةً بعد أزمة الغذاء؛ لأن روسيا من أكبر الدول المنتجة والمصدرة لها في العالم، ومن دون الأسمدة لن نصل إلى معدلات الإنتاج المطلوبة، لكن مصر لن تتأثر كثيرًا؛ لأنها من الدول المنتجة للأسمدة ولديها قدرة على توفير احتياجاتها من الإنتاج المحلي.
وتابع: "حين نتكلم عن أزمة الغذاء والجوع لا نعني فقط كميات الغذاء، بل نوعيته أيضًا؛ لأن الغذاء غير الصحي يؤثر في أمراض مثل السمنة والتقزُّم والسكري، ويلقي بأعباء اقتصادية كبيرة على الدول في علاج المرضى، لذا تحتاج الدول إلى مراجعة سياساتها المتعلقة بالغذاء الصحي والتقليل من هدر الطعام".
ولا تقتصر أزمة نقص الغذاء العالمية على الجوع وعدم الحصول على كميات كافية من الطعام فقط، بل ترتبط بشكل أساسي بنوع الطعام أيضًا، فعلى المستوى العالمي، هناك نحو ثلاثة مليارات شخص لا يمكنهم تحمُّل تكلفة نظام غذائي صحي، وفقًا لدراسة منشورة في دورية "نيتشر فوود" في أكتوبر 2021، ولهذا السبب أيضًا هناك زيادة كبيرة في المستويات العالمية للهزال الشديد للأطفال، وفقًا لليونيسف.
مبادرات وحلول
وفي الوقت الذي اتخذت فيه مصر السياسات السابقة للتخفيف من حدّة أزمة الغذاء العالمية، كان هناك مبادرات بحثية وفردية لتقديم الحلول المتعلقة بنقص الغذاء، منها تجربة لإنتاج رغيف خبز يعتمد على مكونات أخرى بديلًا لدقيق القمح، عن طريق مزج دقيق كسر الأرز والبطاطا والشعير مع دقيق القمح، ونجحت التجربة في إنتاج 10 آلاف رغيف خبز في كفر الشيخ، يقول عزت عابدين -رئيس بحوث بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية، في مركز البحوث الزراعية، وصاحب فكرة المشروع- في تصريحات لـ"للعلم": "هذا الرغيف سيقلل من الاعتماد على دقيق القمح، ومكوناته لها قيمة غذائية عالية، ويمكن تعديل مكونات الرغيف بإضافة الذرة أو نبات الكسافا".
تجربة بحثية أخرى أشرف عليها صبحي السحيمي -رئيس قسم تكنولوجيا الأغذية بمدينة الأبحاث العلمية بالإسكندرية- لدعم الخبز ومنتجات المخابز مثل البسكويت والكعك وغيرها بـ"الكينوا" لزيادة القيمة الغذائية، وبالتالي يُستبدَل بنسبة من القمح وتحل محلها الكينوا التي تحتوي على البروتين والأحماض الأمينية التي يحتاج إليها الجسم، وقال في تصريحات لـ"للعلم": "إذا صنعنا رغيف الخبز بالكامل من الكينوا فلن يكون مطاطيًّا، بل سيكون متحجرًا وغير قابل للأكل، لذا استخدمنا 30% من الكينوا و70% من القمح، وبالتالي أصبح لدينا رغيف عالي القيمة الغذائية وفي الوقت ذاته يقوم بوظيفة علاجية لاحتوائه على مركبات غذائية تسهم في حل مشكلات الأنيميا للأطفال والحوامل، ويوفر احتياجات الجسم من الحديد والفوسفور والماغنسيوم والبوتاسيوم وغيرها".
وعلى مستوى الأفراد، رأى "خليل" أنه يجب على المواطن التوقف عن التخزين لأنه ليس له فائدة، وقد يفسد المنتج، وعليه أيضًا ترشيد الاستهلاك والتوقف عن هدر الطعام، معلقًا: "كنا نشتري أردب القمح بـ270 دولارًا والآن أصبح بـ477 دولارًا، وطن الزيت الخام كان سعره 740 دولارًا ووصل الآن إلى أكثر من 1500 دولار.. يجب أن نتعاون جميعًا لصنع الحلول".
الحد من هدر الطعام
لا يمكن الحديث عن أزمة نقص الغذاء ومؤشرات الجوع دون الحديث بالتوازي عن الكميات الهائلة المهدرة من الطعام، فوفق تقرير مؤشر نفايات الأغذية الصادر العام الماضي عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تهدر مصر أكثر من 9 ملايين طن من الطعام سنويًّا بمتوسط 91 كجم للفرد.
هذا الرقم الهائل دفع النائبة البرلمانية أميرة صابر إلى تقديم مشروع قانون لتنظيم مكافحة هدر الطعام وإعادة توزيعه وتدويره، والتي قالت في تصريحات لـ"للعلم": "أصبح لإقرار هذا القانون أهمية مضاعفة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية وتأثيرها على الغذاء، وتزايدت معدلات الفقر والجوع، ويستهدف إنشاء برنامج قومي لمكافحة هدر الطعام، يختص أولًا بالمطاعم والفنادق، لكن أثره التوعوي سيمتد إلى داخل المنازل".
في السياق ذاته، يُسهم بنك الطعام المصري في توفير الغذاء لمحتاجيه، فوفق محسن سرحان -الرئيس التنفيذي للبنك- في تصريحات لـ"للعلم": إن البنك يسعى لتوصيل الغذاء الصحي السليم لمستحقيه من خلال برامج تدعم الأمن الغذائي، ومن ضمن نطاق عملها القرى الفقيرة والنجوع والمناطق الحدودية التي لا تتوافر فيها الخدمات، إذ يتم إمداداها بمساعدات غذائية شهرية تضمن توفير السعرات الحرارية والقيم الغذائية اللازمة، كما أن البنك لديه برامج لحماية الأطفال من الأمراض الناتجة عن سوء التغذية، وبرامج لدعم صغار المزارعين عن طريق تقديم بعض مدخَلات الإنتاج الزراعي المتميزة من بذور ومغذيات ومبيدات وأدوات ري، مما يُسهم فى زيادة إنتاجية الأرض الزراعية وتخفيض تكلفة الإنتاج وتقليل الفاقد.
ومن المبادرات الفردية المؤثرة، تطبيق "تكية"، الذي أطلقته منة شاهين، للحد من هدر الطعام، وهو يسمح لأي مقدم طعام بالتبرع بالطعام الفائض النظيف الصالح للاستهلاك لأي جمعيات خيرية، أو بيعه على التطبيق بشكل عام بخصم خمسين بالمئة، ويشتريه المستهلك لنفسه أو ليتبرع به بعد ذلك لجمعية خيرية أخرى، تقول "منة" في تصريحات لـ"للعلم": "نجحنا في بيع 40 ألف وجبة حتى الآن كان سيتم إهدارها، ولدينا أكثر من 50 ألف مستخدم للتطبيق، وأكثر من 100 مقدم طعام... هذا فوز ثلاثي؛ إذ يحقق المطعم ربحًا أعلى والجمعية الخيرية يصلها طعام مجاني، والمستهلك يوفر المال، وبالتوازي يقل هدر الطعام والتلوث البيئي".