رسالة الراعي الصالح


ترامب.. هل يلقى مصير جون كينيدي؟

حقق «دونالد ترامب» فوزًا مريحًا وسهلًا فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، على «كامالا هاريس» الباهتة سياسيًا، فضلًا عن أن المزاج العام هناك ليس مستعدًّا لتكرار تجربة أوباما وعلى نطاق سيدة، كثير من الشواهد تؤكد أن هذا الفوز يمثل تحديًا حقيقيًا لكثير من المؤسسات الراسخة بالولايات المتحدة، بدءًا من المؤسسات الصحفية ومراكز استطلاعات الرأى العام التى راحت تبشر وتهيئ الأجواء لفوز كامالا هاريس وصولًا إلى المؤسسات الأعمق.

الرجل أعلن فى أحاديثه أنه سوف يوقف الحرب فى أوكرانيا بمجرد دخول البيت الأبيض وأطلق كلمات قاسية للغاية بحق الرئيس الأوكرانى المدلل من جو بايدن، هو لا يعتبر فلاديمير بوتين عدوًا، بل إنه متهم بالتعاون معه، هو أيضًا أكد مرارًا أنه لو كان فى البيت الأبيض لما نشبت حرب غزة، هو لا يحب الحروب، يتحرك بعقلية رجل الصفقات المالية (الشاطر)، الحروب تعطل الصفقات وتوقف الحال.

لكن تجنب الحروب يعنى تعطل صناعة وتجارة الأسلحة، نحن نعرف قوة المجمع الصناعى العسكرى فى الولايات المتحدة، منذ أن حذر الرئيس أيزنهاور من قوته وخطورة تسلطه على القرار السياسى، الآن يجىء رئيس منتخب ويقرر تحدى هذا المجمع، عدم إشعال حرب يعنى تعطل تلك الصناعة ونفوذ القائمين عليها، لا حرب مع روسيا بشكل مباشر أو بالوكالة، كما جرى فى أفغانستان وما يجرى الآن والتوقف عن اعتبار روسيا العدو، لا حرب مع إيران بل ضغط اقتصادى عنيف، لا حرب فى المنطقة العربية بل مواصلة مشاريع التطبيع، إذا تحقق السلام وتوقفت الحروب فما جدوى السلاح الأمريكى ولماذا يقبل عليه المشترون؟!.

نحن نتحدث عن استثمارات تقدر بالتريليونات، مصانع ضخمة ترتبط بها مراكز أبحاث وعلماء، فضلًا عن أنها مكون رئيسى للهيبة الأمريكية فى العالم، هيبة الإمبراطورية العظمى، الهيبة تخلقها القوة الخشنة أولًا، حتى لو جاءت مغلفة بأحاديث ناعمة. قنبلة هيروشيما ومجموعة أوبنهايمر وقرار الرئيس هارى ترومان صنعت هيبة الولايات المتحدة فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الرئيس بايدن وهو فى حالة «البطة العرجاء»، اتخذ- الأسبوع الماضى- القرار بالسماح لأوكرانيا باستعمال الصواريخ طويلة المدى لضرب العمق الروسى، اهتبل «زيلينسكى» الفرصة ونفذ الأمر بسرعة، روسيا ردت بإطلاق صاروخ عابر للقارات، هكذا تستمر الحرب وتتوسع.

هذا القرار لا يمكن أن يكون بعيدًا عن رغبة البنتاجون ومؤسسات الأمن القومى الأمريكى، إن لم يكن مطلبا وضغطًا منهم، يبدو أن القرار رسالة إلى الرئيس المنتخب بأن هذه هى الأولوية المفضلة لدينا وتلك خطوطنا الحمراء.

الرئيس العائد بقوة عنيد، قائمة مرشحيه لشغل المواقع المهمة والمؤسسات الحساسة تؤكد أنه ماضٍ فى التحدى، تأمل من اختاره وزيرًا للدفاع وكذا المخابرات المركزية و.. و.. و..، فى النهاية سوف ينفذ قراراته ويحقق رغباته.

طوال عامين حاولت المؤسسات المختلفة قطع طريق الترشح أمام ترامب، اتهامات وقضايا ومحاكمات، مرة بادعاء الاحتفاظ بوثائق غاية فى السرية، تتعلق بأدق شؤون الدولة، ومرة لأمر يتعلق بالضرائب، مرة بعلاقة شائنة بامرأة وهكذا، كل وسائل الفضح والتجريس، وفق التعبير المصرى الشائع أخذوه «كعب داير»، ما هكذا يعامل رئيس سابق فى الولايات المتحدة، وقد أمكنه بإصرار شديد مواجهة كل ذلك والإفلات.

فى النهاية فوجئوا به مرشح الحزب الجمهورى.. أطاح بكل منافسيه وفيهم «نيكى هيلى»، التى تصور البعض أنها المسمار الأكبر فى نعشه، أرادوها المقابل الجمهورى للسيدة هيلارى كلينتون، لكنه كالملاكم يكسب جولاته بالقاضية.

ولما لم تفلح الطرق البيروقراطية والإدارية، كانت محاولة الاغتيال الأولى، نجا منها وجعلته بطلًا إلهيًا فى نظر جمهوره، ثم تكررت المحاولة.

فى الإمبراطوريات الكبرى وفى العصر الحديث، فى النظم التى توصف بالديمقراطية أو التى تنعت بالديكتاتورية، إذا بلغ التحدى بين الرجل الأول- رئيسًا كان أو ملكًا- والمؤسسات العميقة الخطوط الحمراء، يتم إبعاده فورًا، إزاحته، وإن اختلفت الطرق والوسائل، فيها الحريرى الأملس وفيها الخشن وفيها ما هو أشد من ذلك.

فى بريطانيا العظمى وقبل الحرب العالمية الثانية مباشرة تم إبعاد الملك إدوارد، تم تغليف الأبعاد بقصة الحب إياها مع سيدة أمريكية، كتب الكثير فى قصة الحب تلك، فيما بعد تبين أنها لم تكن كذلك، كانت أقرب إلى نزوة أو علاقة عابرة لكل منهما، المسألة أن المخابرات البريطانية رصدت تواصلًا وإعجابًا من الملك تجاه سياسات وأفكار الزعيم النازى «أدولف هتلر»، فكان لابد من إزاحته، اتفق الجميع على ذلك، وتمت تغطية العملية بكيوبيد، مع خالص الاعتذار لمن دبجوا المقالات وأصدروا الكتب وقصائد الشعر حول جمال التضحية التى أقدم عليها الملك إخلاصًا للعواطف الجياشة.

فى الولايات المتحدة تم إبعاد الرئيس نيكسون على هذا النحو، هناك فيلم أمريكى عن الرجل الثانى فى جهاز (إف.بى.آى)، الذى سرب فضيحة ووترجيت، هذا الرجل كان مطلوبًا من نيكسون والبيت الابيض فتدخلت الـ «سى.آى.إيه» لعرقلة البيت الأبيض فى الوصول إليه، كان الرجل مندهشًا من تلك الحماية، بين الجهازين تنافس يصل حد الصراع فى بعض المواقف، لكن رجل الـ«سى.آى.إيه» بدد اندهاشه قائلًا له «الرئيس يأتى ويمضى كل أربع سنوات، لكن الـ إف بى آى والـ سى آى إيه، هما الباقيان».

عرفت الولايات المتحدة طريقًا آخر، وهو الإزاحة من الدنيا كلها، حدث ذلك أكثر من مرة، آخرها ما وقع قبل ستين عامًا مع الرئيس جون كينيدى، لم يكن لدى كينيدى ثغرة مثل تلك التى وقع فيها الرئيس ريتشارد نيكسون، لذا كانت التصفية الجسدية. ولا تندهش من أن المخابرات الأمريكية تعرف دبة النملة فى كهوف تورا بورا، بينما عجزت عن معرفة عملية اغتيال الرئيس جون كينيدى.

المعروف أن كينيدى كان وصل إلى قدر من التفاهم مع الرئيس السوفيتى «نيكيتا خروتشوف»، حيث تعاونا معًا فى تجاوز أزمة «خليج الخنازير» وبدا أنه بصدد وضع حد للحرب الباردة، كان الصقور فى الولايات المتحدة يرون أن السوفييت حققوا قدرًا من المكاسب وأن السوفييت فى طريق التقدم عليهم.

ولعلها ليست مصادفة أن تتم إزاحة خروشوف بعد حوالى عام من اغتيال جون كينيدى، كانت الظروف تتطلب لاعبين جددًا لمواصلة الحرب الباردة، بل التوسع فيها.

كان الرئيس كينيدى حقق أيضا قدرًا من التواصل والتفهم مع الزعيم المصرى «جمال عبدالناصر»، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بما يعرقل عمل المؤسسات والخطط الكبرى حول العالم، مع الاتحاد السوفيتى ومع منطقة الشرق الأوسط، التى كانت وستظل تمثل صداعًا-محببًا- لدى الولايات المتحدة.

الرئيس المنتخب دونالد ترامب ليس مثل ريتشارد نيكسون، ليس مستعدًا للانسحاب ومغادرة موقعه تحت أى مسمى، يعتمد على شعبويته الكاسحة والكاريزما الخاصة به وليس على المؤسسات. هو يغلف كل ما يقوم به بمسحة عقائدية ودينية.

وهو لا يعتبر بوتين عدوًا، لديه تفهم لضرورات الأمن القومى الروسى وفق البوتينية، عبر كذلك عن تقديره للأمة الروسية ودور الروس فى حسم الحرب العالمية الثانية وفى وقف زحف نابليون على أوروبا، كل ذلك يعد من المحرمات الأمريكية على من يقترب من البيت الأبيض، ناهيك عن أن يكون ساكنه، قد يُقبَل ذلك الرأى من أكاديمى، يُعد راديكاليًا، لكن من سياسى، صعب أن يمر.

لقد أصبح «فلاديمير بوتين» أقرب إلى «وسواس قهرى» لدى عديد من المؤسسات الأمريكية والغربية عمومًا، الغرب دائمًا يجيد صناعة أو تخيل عدو، ثم يأتى ترامب ليكسر هذا التابو.

ترامب قرر كذلك أن يتوقف عن استعلاء أوباما على الآخرين ومشروعه فى تخريب الدول وتبنى الأوغاد بزعم نشر الديمقراطية.

لكل هذه الظروف من حقنا التساؤل: هل يلقى الرئيس دونالد ترامب مصير الرئيس جون كينيدى؟

دعونا لا نستبق الأيام، لكن ندعو الله بصدق وإخلاص ألا يلقى ذلك المصير.

الأكثر مشاهدة