رسالة الراعي الصالح


الطريق إلى جعل طفلك واثقًا بنفسة

ينبغي في البداية عدم الخلط بين مفهوم "الثقة بالنفس" الذي نعالجه في هذا المقال وبين العديد من المفاهيم الأخرى التي تختلف عنه، وإن كانت تتقاطع معه وتتكامل، مثل مفهوم "صورة الذات"، و"تقدير الذات"، و"إدراك الذات"، و"تأكيد الذات"، و"احترام الذات".. إلخ. وإذا كانت الثقة بالنفس هي أساس النجاح في الحياة، كيف إذاً نعلم أطفالنا الثقة بأنفسهم، حتى يكونوا لبنات في بناء مجتمع مثاليّ؟

الثقة بالنفس أو بالذات، عبارة مكونة من لفظتين، هما: الثقة، والذات، وكلمة ثقة confiance في اللغة الفرنسية مشتقة من الكلمة اللاتينية fidere التي تدل على التصديق والإيمان، وهي في الأصل كلمة كانت تستعمل للدلالة على الثقة التي ينسبها الناس إلى الآلهة، التي تشكل الأمل في أن يتمكن عامل خارجي كلي القدرة من توجيه وحماية الشخص؛ ما يضمن له حسن الحظ في جميع المواقف. وأما الكلمة الثانية، وهي الذات (Moi, Je) فهي مفهوم واسع. يرى كارل يونج أن الجزء المركزي لفضاء الذات هو الشعور، والذات هي الشخص في كليته. والذات عند مؤسس التحليل النفسي فرويد ليست معطى جاهزاً، وإنما تتكون بفعل الصراع خلال عملية النمو الشخصي للفرد. ودور الذات أو الأنا في نظره هو حل الصراعات النفسية التي يعيشها الشخص، في مختلف مواقف الحياة اليومية.

الثقة بالذات أو بالنفس، هي العنصر الأساسي لأي نجاح يمكن للفرد تحقيقه في دراسته أو عمله أو علاقاته بالغير في الحياة الخاصة أو العامة. الشخص الذي ليس لديه الثقة بنفسه لا يمكنه أن يكون قادراً على تحدي المجهول، ويتعذر عليه كذلك عيش حياة مُرضية.

ليست الثقة بالنفس اعتقاد الشخص بأنه أفضل من غيره، فهذا مجرد فخر وليس ثقة؛ فالفخر يجعل الشخص واثقاً بنفسه عندما يقارنها بمن حوله لقياس قيمته، وإذا كان الشخص الآخر أفضل منه، فإنه يفقد ثقته بنفسه. الثقة بالنفس هي القدرة على الإيمان بنفسك، بغضّ النظر عن الزمان والمكان الذي توجد فيه.

الثقة بالنفس هي الشعور الذي يميز العلاقة التي نقيمها مع أنفسنا ومع الآخرين. إنه شعور ينبني على الأمان، واليقين بالقدرة على الاعتماد على قدراتنا أو الاعتماد على الآخرين. الثقة بالنفس هي اقتناع الشخص بأن لديه داخل نفسه، الموارد التي تساعده على مواجهة ما سيحدث. ومن ثم، فهي القدرة على الاندفاع إلى العمل رغم الشكوك التي تنتابه، لأن الثقة بالنفس تعني المضيّ قدماً مهما يحدث، من دون يقين بالنتيجة، لأن الثقة تنزع إلى التغلب على المخاوف والشكوك والمضي قدمًا، وتحقق الشعور بالراحة في موقف معين، واليقين بأننا سنتجاوزه رغم كل شيء، وهو ما يؤكد الشجاعة لكشف الذات وتأكيد أفكارها.

شعور معقّد
الثقة بالنفس شعور متحرك يرافقنا، ويتغير مع الحياة والمواقف التي نلتقي بها. إنه شعور معقد، يشكك في العلاقات الأساسية التي ننخرط فيها: مع شريكنا، مع أصدقائنا، مع عائلتنا، مع أجسادنا، ومع مهاراتنا في الحياة. ولذلك فإنها إيمان الفرد بقيمته أو قدرته، وتسمح لنا بالحصول على رؤية واقعية لقدراتنا وتمكننا من إدارة عواطفنا بشكل أفضل، وتحقيق أهدافنا، لذلك فإن الثقة بالنفس مفيدة للصحة العقلية وصنع القرار والمرونة والنجاح.

شخصية قوية ومتزنة
يرى عالم النفس الاجتماعي إريك إريكسون (1994 – 1902) أن الحب الذي نمنحه الطفل في سنواته المبكرة، ينمي لديه مشاعر الإحساس بالثقة بذاته؛ ما يضاعف لديه قوة الإرادة، ويجعله يحس بأهميته وكفاءته، وأن مشاعر الثقة التي يحس بها في السنتين الأوليين تغلب لديه على مشاعر التشكك. كما تُكسبه القدرة على المبادرة، وتشجعه على الإنجاز، والتغلب على مشاعر الإحساس بالإثم والدونية. كما أن العناية التامة والعطف الحقيقي الذي يحصل عليه الطفل، في السنوات المبكرة من حياته، يجعلانه يدرك العالم بوصفه مكاناً آمناً جديراً بالعيش. أما العناية الناقصة والرفض فهما يؤديان إلى الخوف وعدم الثقة. ولذلك، فإن الثقة بالنفس عبارة عن الشعور الذي يجعل العلاقة التي نقيمها مع أنفسنا ومع الآخرين، تتأسس على الإحساس بالأمن والثقة في الاعتماد على الغير، وعلى قدراتنا، وهي إيمان الفرد بقيمته أو قدرته، إنها قوة داخلية تحفزه على القيام بعمل يعتقد بصحته، بغضّ النظر عما يقوله الآخرون بسبب الثقة التي لديه، والتي تجعله يؤمن بصواب رأيه حتى ولو أدى ذلك إلى سوء الأمر. ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أن الواثق بنفسه يتصرف كما يريد أينما ذهب .

لكن الحب لا يمكن أن يقوم بدوره الأساس في توفير الأمن الذي يولد الثقة بالنفس لدى الطفل؛ ما لم يشعر بأنه مرغوب فيه حقيقة في أسرته. وخير مثال على ذلك الطفل الذي يولد من دون انتظار له، أو ولادة طفل أنثى لدى أب ينتظر طفلاً ذكراً، بحيث تعمد الأم إلى ترك شعر طفلها يطول أكثر من اللازم، أو فرض نوع من اللباس عليه. إن مثل هذه الأم تحب وتتوقع أن تلد بنتا فتُسقط على طفلها المولود الذكر كل صفات البنت التي تتربع في أعماق رغباتها النفسية.

إن الطفل بحاجة إلى الأمن، وهذه الكلمة تلخص من الناحية العملية مجموع الشروط الضرورية للتطور العاطفي الجيد. وليس الأمن الذي توفره الأم سوى أحد مظاهر هذه الحاجة. غير أننا نجد صعوبة كبيرة عندما نحاول تحديد طبيعة الأمن ومفهومه الدقيق، وإن كانت العناصر الثلاثة التي تشكل طبيعته، هي الحب والقبول والاستقرار.

 الحب الذي تمنحه الأم طفلها ليس ضرورياً لنموه على الصعيد العاطفي فحسب، وإنما أيضاً على الصعيد الجسمي، والعقلي، كما بينت ذلك عدة دراسات، مثل دراسات أنّا فرويد  (1895 -1982)، "إن الطفل المحبوب هو فعلا طفل سعيد". لكن حب الطفل ينبغي أن يكون حباً صادقاً، فالطفل نادرا ما يمكن خداعه. ومعنى ذلك أن الطفل الذي لا نحبه حباً صادقاً لا ينخدع بإغداق القبل عليه، وشراء اللعب والحلوى وتقديمها له؛ فالطفل لديه حدس طبيعي يدرك به الأشياء.

شعور الطفل بأنه مرغوب فيه، ومحبوب، ومستقر، يمنحه الركائز الأساسية الثلاث لنموه الجسمي والعقلي والعاطفي، والتي تشعره بالأمن الضروري لنمو شخصيته نمواً سوياً ومتزناً في وسطه الأسري، من خلال تفاعلاته مع أفرادها. إن نمو الطفل وتطور شخصيته بشكل سوي أو مُرضٍ مرهون بنوع العلاقات التي تربطه بمن حوله، وحسب تفاعلاتهم فيما بينهم على مرأى ومسمع منه يومياً، وبصفة دائمة ومتكررة. كما أن الطفل يصبح راشداً سوياً من الناحية النفسية، حسب درجة الأمن الذي يتحقق له في أسرته، غير أن هذا الأمن ينبغي ألا يشكل سوى حاجة مؤقتة ترتبط بمرحلته الطفولية. ذلك أن إفراط الراشد الزائد في البحث عن الأمن ليس سوى تعبير عن نضج عاطفي غير مكتمل لديه. ويمكن أن نعتبر الطفل راشداً في الوقت الذي يتقبل فيه الشعور بعدم الأمن، كما لو كان خطراً عادياً. ويمكن اعتبار الأبوين ناجحين في تربية أطفالهما، بقدر تعليمهم الاستغناء عنهما. ومن هنا نستطيع أن نؤكد مدى صعوبة الاضطلاع بأدوار الأمومة والأبوة على أفضل وجه. ولذلك اعتبر رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد التربية من بين المهن الثلاثة الصعبة التحقيق، إن لم تكون مستحيلة (الحكم، التربية، التحليل النفسي: المهن المستحيلة).

أرض خصبة للنمو
يؤكد علم النفس العصبي اليوم، أن الوسط أو البيئة العاطفية، أي نوع المناخ العلائقي الذي يعتبر قبل كل شيء عبارة عن الأمن والثقة واللطف والتعاطف، ليست حاجات عاطفية ثانوية مفيدة خلال التعامل مع الطفل، وإنما هي بمثابة الأرض الخصبة، التي تتيح كل الإمكانات المتعلقة بالنمو، فالبيئة تشكل الشرط الأساس الذي يسمح أو لا يسمح للدماغ بالنمو والتطور بجميع قواه، وأن دماغ الطفل لا يتكون على انفراد، ومن فراغ، وبمعزل عن البيئة التي يعيش فيها ويتفاعل معها .

وتفسر لنا علوم الأعصاب التربوية اليوم الكيفية التي تتفتح وتنمو بها القدرات العقلية، وتبين دور المناخ العاطفي في التنمية المتكاملة لوظائف الدماغ. كما تبين لنا هذه العلوم الحديثة أن نمو الدماغ يخضع للتكوين الجيني، غير أنه يتشكل حسب تأثير الوسط البيئي، وأن الجزء الأكبر من الدماغ يتكون في السنوات الخمس الأولى، غير أن نضجه يمتد إلى نهاية المراهقة، وأكثر بالنسبة إلى بعض المناطق، مثل الفص الجبهي الذي يدعى "الدماغ الحضاري"؛ وأن معرفة الدماغ ووظائفه تقود إلى وضع مناهج بيداغوجية جديدة وفعالة ومنصفة للطفل المتعلم.

التمتع بالثقة الكاملة بالنفس هو أساس مستقبل نجاح كل طفل، لأنه يسمح له باكتساب الخبرة والتجربة بنفسه. وهذا يمكّنه من اتخاذ القرارات، والتعلم من أخطائه، لمواجهة تحديات الحياة. كما أن الثقة بالنفس هي مفتاح مساعدة الطفل على النمو السوي. ويجب على الراشدين عدم احتقار أحلام الأطفال وتمنياتهم المستقبلية، حتى ولو كانت تبدو لهم صعبة التحقيق. علينا أن نشجعهم على الثقة بأنفسهم، وهو ما يعتبر شيئاً مهماً لتحقيق أهدافهم. وأن نهنئهم على إنجازاتهم، حتى ولو لم تكن إنجازات كبيرة لمساعدتهم على أن يكونوا واثقين بقدراتهم. كما ينبغي أن ننتقدهم بطرائق بناءة لتقوية الثقة بذواتهم، وأن نؤمن بهم، ونساعدهم في الوقت المناسب، ونشجعهم، وأن نتركهم يصقلون مواهبهم، وسوف يعتادون شيئاً فشيئاً مواجهة مخاوفهم، وسيتمكنون من الجرأة أكثر .

حب غير مشروط
يكتسب الأطفال الثقة بالنفس إذا أحبهم آباؤهم حباً غير مشروط؛ إذ إن شعور الطفل بقبوله يعتبر مساعدة كبيرة له، بغضّ النظر عما هو عليه. على الوالدين تخصيص الوقت الكافي لإعطاء الطفل الاهتمام الكامل، وجعله يشعر بهذا الاهتمام، وأن يعرف أن أفكاره ومشاعره تهم أبويه، فهذا سيساعده على التغلب على خجله؛ وإذا حاول الطفل أن يخبرك بشيء ما فاستمع إليه جيدًا، حتى لو كنت لا تفهم ما يريده. وعلينا تقبّل انفعالاته من دون الحكم عليه أو السخرية منه إذا كان يخاف من الظلام على سبيل المثال، وبدلًا من ذلك علينا أن نشاركه مشاعرنا، حتى يفعل الشيء نفسه. فهذه بعض الطرائق التي يمكن أن تساعد طفلك على إدارة مشكلة ثقته بالنفس.

أنشطة ملائمة لتنمية الثقة بالنفس لدى الأطفال
يمكن لأفراد الأسرة الاستمتاع بالألعاب الخارجية بقدر ما يريدون، بخاصة في فصل الصيف. وحتى لعب كرة القدم يمكن أن يكون أداة فعالة لتشجيع الأولاد والبنات على الثقة بأنفسهم. المهم في الأمر عدم المبالغة في إظهار الحماسة للأطفال. كما أن التلوين يعتبر نشاطاً آخر يمكن ممارسته. لكننا نجد الأهل يتدخلون في كثير من الأحيان عندما يرون طفلهم يقوم بالتلوين أو الكتابة، تدخلاً بشكل صحيح ودقيق. والأولى أن نتركهم يخطؤون، فالفشل يعد جزءاً من الحياة. كما يمكن أن تكون ألعاب الفيديو، طالما أنها لا تدوم أكثر من نصف ساعة، نشاطًا رائعًا لبناء احترام الأطفال لذواتهم وثقتهم بأنفسهم. وهناك الكثير من الألعاب التي يمكنك لعبها، وكلها جيدة طالما أن هناك جوًا هادئًا ومدروسًا. الشيء الرئيس هو ألا يكون فيها النصر والهزيمة مهمًا جدًا. ما يهم هو الوقت الذي نقضيه معًا في التعرف إلى أطفالنا.

     "الحـب الـذي نقدمه للطفل في سنواته المبكرة      
       ينمّي ثقته بنفسه ويضاعـف لـديـه قـوة الإرادة"      

الأكثر مشاهدة