رسالة الراعي الصالح


لتثبت المحبة | بقلم: الأم إيڤون لوريا

المحبة أساس الثبات في الله
في زمن تتزايد فيه برودة المشاعر وتقلّ فيه القدرة على احتمال الآخر، يظل موضوع المحبة من القيم الجوهرية التي يدعونا إليها الإنجيل، ليس فقط كمبدأ أخلاقي، بل كطريق عملي للثبات في الله. فالكتاب يقول: "من يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه"، "وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي للهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ." (1 يو 4: 16).
ما يعني أن حياتنا الروحية لا تنفصل عن علاقتنا بالمحبة، سواء تجاه الله أو تجاه الآخرين.

الله هو المحبة
الله في جوهره هو المحبة. فكل دوافعه وأعماله وتوجهاته نابعة من الحب. فالمحبة ليست من صفاته فحسب، بل هي طبيعته الأساسية. كل أعماله معنا قائمة على الحب، وكل تعاملاته تهدف إلى خيرنا وخلاصنا. ومن هذا المنطلق، يطالبنا الإنجيل أن نحب الله من كل القلب، والفكر، والنفس، والقدرة، وأيضًا أن نحب إلى مستوى "أحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا" "هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ." (يو 15: 12).

الثبات في المحبة... كيف؟
الثبات في المحبة لا يتحقق بالشعارات أو بالكلام فقط، بل بخضوع القلب لوصايا الله واتحادنا بالمسيح. المسيح شبّه نفسه بالكرمة ونحن بالأغصان: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان". "أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا." (يو 15: 5).
فالغصن لا يمكن أن يثمر إلا إذا ظل متصلاً بالرأس، وكذلك نحن، لن نثبت في المحبة إلا إذا ظللنا متحدين بالله من خلال الصلاة، والطاعة، وحياة الشركة. المحبة ليست مجرد عاطفة، بل قرار إرادي نختاره كل يوم. هذا القرار يتجلى في قبول الآخر، والغفران له، والرحمة به، حتى في لحظات الجرح والرفض. أن محبة الله ومحبة الآخرين وجهان لعملة واحدة؛ فلا يمكن الادعاء بمحبة الله غير المنظور مع بغضة الإنسان المنظور. فمن يلتصق بالرب يصير معه روحًا واحدًا، وهذا يتطلب تجاوبًا مع محبة الله بتقديم القلب له.

معوقات المحبة
هناك معوّقات كثيرة تقف أمام المحبة، أبرزها:

  • محبة الذات التي تجعل الإنسان مركزًا لكل شيء.
  • الكبرياء الذي يولّد روح الإدانة والحكم على الآخرين.
  • التعلّق بالعالم والرغبات الشخصية التي تسرق القلب من الله.
  • محبة لذة الخطية.

هذه كلها تُضعف قدرتنا على الحب وتفتح الباب لإبليس ليعطّل علاقتنا بالله.

مواصفات المحبة الحقيقية
صفاتها:
تتأنى، ترفق، لا تحتد، لا تظن السوء، ولا تطلب ما لنفسها.
أهميتها: هي أعظم من الإيمان والرجاء، وبدونها لا قيمة لأي عمل آخر حتى لو كان تقديم الجسد ليحترق.
طبيعتها: المحبة هي طبيعة الله، أما بالنسبة للإنسان فهي اختيار وقرار واعٍ. نحن نختار أن نحب طاعةً لوصية الرب، ولأن عدم المحبة يكسر علاقتنا بالله ويحزن الروح القدس.

المحبة بالروح القدس
المحبة ليست من طبيعتنا البشرية، لكنها ثمرة الروح القدس في حياتنا. فبولس الرسول يوضح أن "محبة الله انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا." "وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا." (رو 5: 5).
هذه النعمة الإلهية تسكب فينا القدرة على محبة حتى من يسيء إلينا، وتمنحنا القوة لنغفر بلا حدود.
المحبة ليست شعورًا فقط، بل هي قرار يتطلب مقاومة البغضة والإدانة والرفض. ولكي نستقبل هذه النعمة وانسكاب الروح القدس فينا بالمحبة، يجب علينا أن نتوب ونطهر قلوبنا من كل ما يعطلها ونقاوم إبليس وأفكاره.

الصلاة والتوبة لانسكاب المحبة
الطريق لامتلاء القلب بالمحبة يبدأ بالصلاة التي أساسها التوبة. يجب أن نبدأ بالتوبة وتصفية القلب من كل إدانة أو جرح أو غيظ، وطلب غفران دم يسوع للتطهير. عندما يُزال حاجز الخطية، يفيض الروح القدس ويملأ النفس بالحب والحياة والسلام.
ومن مظاهر غياب المحبة "تقبيح" الآخر، أي رؤيته بصورة مشوهة وسيئة من خلال التركيز على خطاياه. هذه النظرة هي بعين إبليس لا بعين الرب.

مخاطر الإدانة والبر الذاتي
الإدانة لا تخلّص، فالمسيح نفسه لم يأتِ ليدين العالم بل ليخلصه. "لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ." (يو 3: 17).
عندما ندين الآخر، ننسى أننا جميعًا ضعفاء وخطاة. كما يجب أن نتحذر من خطر "البر الذاتي" لدى المؤمنين، الذي يجعلهم يشعرون بالتميز والأفضلية على الآخرين، مما يؤدي إلى احتقارهم وإدانتهم. نظرة الإدانة تُثبّت الخطيئة على الآخر، بينما نظرة الرحمة، كنظرة المسيح للمرأة الخاطئة، هي التي تخلّص وتقود للتوبة.

المغفرة كبرهان للمحبة
الغفران هو المحكّ الحقيقي للمحبة. فالمسيح غفر لصالبيه، واسطفانوس غفر لراجميه. الغفران لا يعني التهاون، بل يعني التحرر من المرارة والبغضة. وهو ليس أمرًا اختياريًا، بل وصية واضحة: "إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم السماوي". "فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ." (مت 6: 14).

الغفران ليس سطحيًا، بل عميقًا وكاملًا، ويُقاس بسلام القلب بعد الصلاة لأجل من أساء إلينا.

  • بلا حدود: "إلى سبعين مرة سبع مرات". (مت 18: 22)
  • عميقًا وكاملًا: يجب أن يخرج من الجوهر، مع الصلاة من أجل المسيئين ومباركتهم.
  • متجردًا من آراء الناس: الاهتمام يجب أن يكون بوصية المسيح ورأيه، لا بما سيقوله الناس.

المحبة العملية داخل الأسرة والكنيسة
المحبة الحقيقية تظهر في الممارسة اليومية، لا بالكلام فقط. الأسرة هي نواة الكنيسة، وإن انكسرت المحبة داخلها، انعكس ذلك على الكنيسة والمجتمع. لذا، علينا أن نعيش المحبة في بيوتنا، في الاحتمال، والغفران، والبذل العملي، لأن الوصية تقول: "لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق". "يَا أَوْلاَدِي، لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ!" (1 يو 3: 18).

الخطية وعلاقتها بالمرض
أن مشيئة الله هي الشفاء، والمرض يكون من الشرير. وفي بعض الأحيان، عندما لا تأتي العلاجات الطبية بنتيجة، قد يكون السبب خطية ما تفتح الباب لإبليس ليشتكي على الجسد. 

  • البغضة وعدم الغفران: حمل ضغينة أو إدانة تجاه الآخر يعطي فرصة لإبليس للتسبب بالمرض.
  • التذمر على الله: عدم الرضا والسخط على الله في أوقات التجارب.
  • الروح النجس: الانفتاح على أمور نجسة مثل مشاهدة المواد الإباحية أو الدخول في علاقات خاطئة.

الشفاء يأتي من الروح القدس، ولكي يسري في الجسد، يجب نزع الخطية من خلال توبة حقيقية وتغيير في الاتجاه.

التواضع... الطريق إلى المحبة
الاتضاع هو الأساس الذي يحمي القلب من روح الإدانة. فالكبرياء هو الجذر الخفي للبغضة. كلما ماتت الذات، ظهر المسيح فينا، لأن من لا ينكر نفسه لا يمكنه أن يحمل الصليب ويتبع المسيح. بدون التواضع لن نقدر أن نحب، ولن نقدر أن نغفر.

الحياة مع المسيح ليست سهلة، لكنها مملوءة بالمجد لمن يثبت في المحبة. فهي تتطلب جهادًا يوميًا ضد الذات والشر، وسعيًا مستمرًا نحو الاتضاع والغفران، حتى نصير مشابهين صورة المسيح الذي أحب حتى الموت. فالمحبة ليست خيارًا، بل هي هوية المسيحي الحقيقية، وبدونها لا يمكن أن نثبت في الله.

الأكثر مشاهدة