رسالة الراعي الصالح


أنا هو الطريق

لا يمكننا فهم الإيمان المسيحي وبشارة الإنجيل؛ إلا إذا تجاوزنا بعقولنا كل الأوصاف والتشبيهات المادية لله. فالله ليس كمثله شيء، ولم يعطنا الإنجيل كلمة أُخرى تُعبر عن الله وتقترب بها منه سوى كلمة "النور"، مع تمييز الإنجيل لوصف النور لله بأنه النور الحقيقي (أو الجوهري) ليميز لنا الإنجيل بين النور المخلوق الذي نعرفه كأشعة الشمس مثلاً، وبين النور الأزلي الذي لم يراه أحدٌ، ولا يستطيع أحدٌ أن يراه، فهو لا تدركه الأبصار، وهو نورُ أزليٌ خالقٌ حيُ ومانحٌ للحياة.

ومن ثم فقد شرح القديس أثناسيوس - من أباء القرن الرابع - هذه الحقيقة : أن النور لا يكون نورًا بدون شعاعًا مولودًا منه، وهذا الشعاع المولود من النور هو الذي يعلن النور ويعبر عنه ويظهره "بنورك نعاين النور" (مزمور ٣٦ : ٩ "الترجمة المشتركة")

 ويوضح القديس أثناسيوس أن النور كائنُ في الشعاع، والشعاع كائنٌ في النور، والنور والشعاع هما واحد؛ وكذلك قوة الضياء التي تنبثق (تتوهج) من النور. فالنور في الشعاع ومنه أيضًا قوة الضياء؛ والنور والشعاع وقوة الضياء هما نورًا واحدًا.

المسيحية لا تعرف صورة الله المحتجب المجهول ولكنها تمتلك إعلانًا محددًا عن الله؛ وهو الذي أعلنه لنا المسيح (شعاع النور) الذي ظهر وأظهره بالتجسد من خلال إنسانيته: أن الله نورٌ فائقٌ أزليٌ غير منظور يملأ الكون، لم يبصره أحد، وهذا النور مولودٌ منه شعاعه ومنبثقٌ منه قوة ضيائه؛ وهذا هو تعليم الثالوث في المسيحية أن الله واحدًا كليًا غير مُدرك ولا مٌتجزأ، وهو بنفس الآن النور (الآب) وشعاع النور المولود منه (الابن) وقوة الضياء المتوهجة من النور (روحه القدوس).

هذه حقيقة الله الأزلية قبل الأكوان والزمان؛ يخبرنا الإنجيل أن شعاع نوره الأزلي قد حل وتجسد وظهر في إنسانية المسيح يسوع له المجد.
وبغير جدال فلا يستطيع أي إنسان أن يصل إلى النور إن لم يظهره له شعاع النور، وأيضاً فإن شعاع النور هو الذي يقوده إلى النور إذا ابتغى أن يصل إليه. فلا طريق إلى النور إلا بواسطة شعاع النور؛ ولهذا يقول المسيح: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي." (يوحنا ١٤ : ٦)

النور الحقيقي جاء إلى العالم لكي ينير الإنسان من داخله، ينيره في عقله وقلبه ومحبته وإرادته، وعلامة إستنارة الإنسان بالنور هي محبة النور، واتحاد إرادته بالنور. فإذا قبل الإنسان النور فإن النور ينقله من الظلمة إلى الإستنارة، وإذا أحب الإنسان النور واتحدت إرادته به فإن النور يأخذه ويقوده إلى مصدر النور، وهذا هو كلام المسيح "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يوحنا ١٤ : ٦) لأنه شعاع النور الذي يأخذ الإنسان إلى النور.

فإذا قلت أنك مسيحيًا، ولم يدخل النور إلى حياتك بعد ليجعلك خليقة جديدة وابنًا لله، فإن مسيحيتك يعوزها الحقيقة والبرهان؛ وإذا كنت مؤمنًا بالمسيح ومازلت تبغض أخاك، فإن العهد الجديد يخبرك: "من يبغض أخاه فهو في الظلمة، وفي الظلمة يسلك، ولا يعلم أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه." (يوحنا الأولى ٢ : ١١)

فالإنجيل يشهد عليك أنك لم تختبر النور بعد، مادمت تعيش في بغضة أخيك؛ أما إذا كان النور يحمل شوقك ومحبتك واتجاهك إلى الاتحاد بالمحبة بمصدر النور، فإن وعد المسيح سيتحقق لك "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي". وهكذا سيصير النور لك سلماً منصوباً بين الأرض والسماء "من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان" (يوحنا ١ :٥١)

فالنور سيصير سلم لك للدخول إلى مجد الآب بالمسيح يسوع "نوره الحقيقي".

الأكثر مشاهدة